عُرفت المناورة منذ التاريخ القديم بالنسبة لمعظم جيوش الأُمم وكان ديدنها السُرعة والمُباغتة وعُدت «الكماشة أو التغليف» واحدة من أشهر أساليب المناورة في التاريخ والذي استخدمه «حنبعل» ضد الجمهورية الرومانية في معركة كاناي في 216 قبل الميلاد، ومن ثم خالد بن الوليد ضد الإمبراطورية الفارسية في معركة الولجة في 633 ميلادية.

وللمناورة عناصر تتكون من الوتيرة ونقطة الاتصال، والمفاجأة والمرونة، واللامركزية في القيادة والمقصود باللامركزية: هي اتخاذ قرارات سريعة تتفاعل مع الأوضاع المتغيرة لتبقى الاتصالات قائمة، وأما عن أهدافها فقد كانت أهداف المناورة قديماً حاضرة على أرض المعركة فقط كتحقيق عنصري السرعة والمُباغتة لقتل أو أسر العدو ولا خيار ثالث لهما.

وفي العصر الحديث تطوّرت أهداف المناورة وأصبحت تضم عدداً من الأهداف وهي:

إبراز حرفية الجيوش وكفاءتها وقوتها، ورفع مستوى الاستعداد القتالي، والقدرة على التنسيق والتعاون الإداري واللوجستي، ولتحقيق هدف سياسي عميق المعنى، سريع الأثر وهو: «توجيه رسالة رادعة لطرف ثالث أو عدة أطراف، مضمونها أن هذه الدولة تحتفظ بقوات مسلحة قوية وذات كفاءة قتالية عالية وخارقة!».

المناورات العسكرية كأحد أساليب التعبير

ابتكر العسكريون المناورة العسكرية كأحد أساليب التعبير لديهم؛ وهي تُشير إلى استراتيجية عسكرية تقوم على بدء الحرب بهجوم متحرك وسريع ومباغت يُربك العدو ويوقع به خسائر مهمة دون علمه مسبقاً بهذا الهجوم، وقام فريق آخر من العسكريين باستحداث فكرة القيام بالمناورات في السلم، حيث تتكون من سلسلة تدريبات تقوم بها عدة دول حليفة أو دول منفردة بين أفرع قواتها العسكرية المختلفة بهدف تطوير أدائها وتعزيز مهاراتها الميدانية وتقوية الروابط العسكرية بين الدول المشتركة، وتحمل المناورات في السلم رسائل سياسية واقتصادية وعسكرية متعددة المهام على حسب التهديدات والمخاطر المحتملة.

وقد شهد التاريخ المعاصر عدداً كبيراً من المناورات التي عُدت الأقوى عالمياً ومن أبرزها:

المناورات الكورية الأميركية: وهي مناورات عسكرية بحرية مشتركة قامت قبالة السواحل الكورية الجنوبية بين كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وتتم بشكل سنوي.

مناورات فرخ النسر: وهي إحدى المناورات العسكرية التي تقام أيضًا في شبه الجزيرة الكورية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.

مناورات النجم الساطع: وهي واحدة من أكبر التدريبات العسكرية متعددة الجنسيات في العالم، تقام في جمهورية مصر العربية بصفة دورية كل عامين.

وقد نظمت العديد من البلدان في الشرق الأوسط الكثير من المناورات العسكرية مؤخراً كـ»سيف عبدالله» و»رعد الشمال» نتيجة لما يشهده اليوم من محاولة تفكيك أواصره عن طريق التنظيمات الإرهابية المُنفذة لأجندة دول راعية له.

قوات مُختلطة هدفها مُشترك

واليوم تشهد المنطقة الشرقية من الأراضي السعودية مناورة ضخمة لقوات مُختلطة مهيبة تقودها القوات السعودية المُسلحة، عُرفت باسم «درع الخليج المشترك -1»، وتحمل المناورة بين طيّاتها سلسلة من التمارين، تهدف إلى رفع الجاهزية القتالية للقوات المشاركة، وتبادل الخبرات العسكرية بين الشرق والغرب.

ويُميّز التمرين بفن تعدد مختلف الاستراتيجيات والمقومات العسكرية؛ تبعاً لتحقيق الأهداف للدول المشاركة جميعاً، كما يهدف إلى تفعيل مفهوم خطط الدفاع المشترك للتصدي للأعمال العدائية الموجهة من قبل المنظمات الإرهابية والدول الداعمة لها، وإبراز التماسك والتجانس العسكري بين الدول المشاركة، وتنمية الشعور بالأمن والسلام الجماعي ووحدة الصف والمصير المشترك تجاه خطر مشترك يهدد أمنهم القومي، وتفعيل ومن ثم توحيد منظومات وإجراءات القيادة والسيطرة والاتصالات للقوات المشاركة بالتمرين، وبالإضافة إلى التدريب على عمليات الإمداد اللوجستي في العمليات العسكرية.

والقوات المسلحة السعودية تؤمن بأن معظم الأساليب الحربية تعتمد على التكامل بين المناورات الحربية؛ لتحقيق الهدف المأمول أمام حفظ وصون الإنسانية من العُنف والقتل والترهيب، ويُعتبر تمرين «درع الخليج المشترك -1» تعبيراً تكتيكياً من حيث الموقع الذي اختير له، ومن حيث الأهداف السياسية والعسكرية والاقتصادية، فهو شامل ومختلف نسبياً عمّا سبقه من مناورات.

بُرهان صارم ورادع

وعُد «درع الخليج المشترك -1» صورة حية وبرهان واضح على ما تتمتع به المملكة من قوة وتأهيل عسكري وتجهيزات فائقة، وإنذار لكل من تسول له نفسه المساس بأمن دول الخليج، وتحظى المملكة بثقة دولية كبيرة حيث نجحت بجمع 22 جيشاً على أراضيها، كان من بينها أقوى الجيوش عالمياً، وجاءت هذه الثقة لطبيعة العقيدة السياسية للمملكة التي تُجرِّم الاعتداء على سيادة الدول وتنبُذ عقيدة التمدُّد بالنفوذ، وتمد يد العون والمؤازرة لكل دولة منكوبة تِبعاً لثقافة السلام التي تبنتها منذ التأسيس.

والجدير بالذكر أن المناورة العسكرية في الأزمنة ما قبل التاريخ ابتكِرت للقضاء على العدو على أرض المعركة باستخدام ميزة السُرعة، وتغيّر الأسلوب تزامُناً مع تطوّر المركبات والأسلحة، فمن حصانٍ مُنفرد، إلى حصانٍ آخر في عربة ثم ازدادت تشكيلات المركبات مع الأسلحة بعد انتهاء العصر الحديث بِدءاً بالمُعاصر حيث أصبحت المناورة العسكرية تعي مفهوماً آخر بجانب المفهوم الأصلي لها، فقد تمحور المفهوم الجديد على أنها تمارين عسكرية تجريها الجيوش والقوات المسلحة كنشاط تدريبي لاختبار الجاهزية العسكرية أو تكتيكات أو استراتيجيات عسكرية معنية، الأمر الذي جعل من الدول أن تتسابق حول ما يُميّز مناورتها العسكرية على أتم وجه ممكن، وقد مُيّزت المملكة بقواتها العسكرية وما تمتلكه من مقدرات في الأسلحة المتطورة والتي تقطع شوطاً في حسم المعارك.

انتهاء تمرين مركز القيادة

وينطلق اليوم الأحد، التمرين الميداني لمناورات «درع الخليج المشترك -1»وذلك بعد أن أنهت قيادات القوات المشاركة تمرين مركز القيادة الذي سبق التمرين الميداني، وحققت فيه جميع الأهداف المُخطط لها بدقة.

وكشف المتحدث الرسمي لتمرين «درع الخليج المشترك -1» العميد الركن عبدلله بن حسين السبيعي، عن عدد أيام التمرين الميداني وهي أربعة أيام مستمرة ومتواصلة، وتتضمن تدريباً بالذخيرة الحية تشارك فيه جميع القوات المشاركة بالتمرين (برية، جوية، بحرية، دفاع جوي، قوات خاصة).

وقد نُفذ الأسبوع الماضي واحدة من أضخم خطط التحرك العسكري على مستوى العالم والتي تتمثل من لحظة الوصول الأولى للقوات المشاركة إلى التمركز في أرض ميدان التدريب.

ووفق خبراء عسكريين تبرز أهمية التمرين من خلال حجم المشاركة ونوعية العتاد العسكري النوعي المتطور، والتقنيات المستخدمة في التمرين التي تعد من أحدث النظم العسكرية العالمية، مدعومة بمشاركة أربع دول تصنف بأنها ضمن أقوى عشرة جيوش في العالم.

وتشكل التمارين التعبوية المتطورة الضخمة، نهجاً مستمراً لوزارة الدفاع في المملكة، حيث تعمل على الاستفادة من تراكم الخبرات المستمرة.

أهمية القيام بمناورات عسكرية في هذا الوقت

تحقيق الجاهزية الكاملة لجميع القوات المشاركة أثناء التعبئة العامة والنفير وفي زمن قياسي ووقت قياسي.

تمكين القوات وتأهيلها للقدرة على خوض معارك متنوعة: دفاعية أو هجومية وفق خطط التعبئة المحددة من المستوى الأعلى.

وسيلة سياسية بالغة تتخذها الدول المشاركة كتعبير تجاه من يُهدد أمنها القومي.

تبادل الخبرات القتالية بين الجيوش المشاركة؛ لرفع مستوى الكفاءة القتالية والإدارية والفنية لجميع الوحدات والتشكيلات في جميع الأسلحة.

ترجمة للمجتمع الدولي، المعنى الحقيقي للروح المشتركة بين جيوش الدول المشاركة في المناورات العسكرية وتعزيز رابطة أخوة السلاح، وتوليد الرغبة الدائمة في مُحاربة قوى الشر التي تُعيق مجرى الإنسانية والسلام.

مُحاكاة الحداثة القتالية في الحرب الحديثة من خلال استخدام أسلحة متطورة ومعقدة ذات تقنية ذكية وتبادل المعلومات الهائلة بين صفوف الجيوش المُشاركة؛ لتكوّن لنا قوى قتالية حديثة خارقة غير مسبوقة.

استراتيجية التدريب العسكري

نقلاً عن خُبراء بالعلوم العسكرية والاستراتيجية، تتركز استراتيجية التدريب أساساً على محورين: الموارد البشرية، والموارد الاقتصادية، لأنهما هما السبيل لخلق قوات مسلحة ذات كفاءة عالية وقدرة على مجابهة أي عدوان، وتسهم في تطوير وتحديث وتقدم الوحدات المقاتلة وإمدادها بالأفراد والمعدات والتقنية، وذلك من خلال نظرة طويلة الأمد ترى المستقبل بوضوح، وتتحسب لما يلوح في الأفق من تحديات، وتبني استراتيجية التدريب خططاً على مدى زمني يتراوح بين خمس وعشر سنوات، مع الأخذ في الاعتبار مراحل التدريب السابقة، وتحليل الحاضر، واستقراء المستقبل، والمتغيرات المتوقعة.

وأضاف الخُبراء أنه تتأثر استراتيجية التدريب وتتفاعل مع البيئة المحيطة بها وتؤثر فيها مثل الحالة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، ودرجة الثقافة والوعي لدى المواطنين، ومدى ملاءمة هذه البيئة لمتطلبات وحجم الوحدات العسكرية وتدريبها ومستوى تجهيزها وعلى برامج التوسع الجديدة في الوحدات المقاتلة، وأحياناً التقليص في حجمها أو إضافة مهام جديدة لها، أو إدخال تجهيزات ومعدات وأسلحة حديثة ومعالجة القصور، حيث لا يمكن الارتقاء بمستوى التدريب وبلوغه مبتغاه في غياب استراتيجية تضع نصب عينيها بناء الضابط، وضابط الصف، والجندي على قاعدة سليمة ومتطورة تغرس في نفوسهم التضحية والفداء.

مؤشرات لنجاح مناورات

درع الخليج المشترك -1

لا يخفى على الفكر العسكري أن مقومات النجاح في مناورات أي تمرين عسكري تقوم على تخطيط موضوعي ذو أهداف واضحة يشمل جميع أنواع التدريب القتالي، وعلى نواحٍ فنية مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالعملية التدريبية في مجموعة من الخطوات يمكن إيجازها -نقلاً عن خُبراء عسكريين- على النحو التالي:

1- الاحتياجات التدريبية الفعلية

الاحتياجات هي تحديد الأعداد ونوعية العسكريين المراد تدريبهم وتحديد الاتجاهات والأهداف من العملية التدريبية والمعارف والعلوم اللازمة لتطوير الوحدات العسكرية المقاتلة، ويتم تحديد احتياجات التدريب بعدة طرق أهمها:

تحديد احتياجات التدريب عن طريق القائد المباشر للوحدة والتشكيل، وتحديد الاحتياجات من خلال تحليل المؤشرات المرتبطة بالتقييم العام لمدى إلمام العسكريين قادة ومرؤوسين بالعلوم والمعارف الحديثة، ومدى التقيد بقواعد الضبط والربط الجيد وما له من أثر كبير على العملية التدريبية.

2- تصميم الدورات التدريبية

تصمم وتُنتقى الدورات التدريبية حسب احتياجات التـدريب العامة للوحدات العسكرية، وهذا يرتبط بمضمون هذه الدورات والعلوم المحددة، وتجهيز مبان وساحات وميادين مناسبة ومرافق لازمة لذلك وكل ما تتطلبه العملية التدريبية، ودراسة الخطة الزمنية لكل دورة ومكان عقدها وأعداد المتدربين.

3- الدقة في اختيار المدربين والمتدربين

يأتي اختيار المدربين في حال وجود حصر دقيق في متطلبات التدريب الفعلية مع ضرورة التنسيق مع قادة الوحدات والتشكيلات عند اختيار المرشحين لتلقي دورات وخاصة عندما تزيد أعداد المتدربين عن إمكانيات المؤسسات التدريبية.

4- تحديد المتطلبات المالية لأنه؛ من أسس نجاح العملية التدريبية تخصيص موارد مالية وفق الميزانية المحددة من المختصين.

5- الإشراف وتقويم العملية التدريبية

يخضع التدريب العسكري القتالي للإشراف المباشر من المستوى الأعلى عن طريق هيئة التدريب، وتتم المتابعة المستمرة للعملية التدريبية وقياس مدى نجاح وفاعلية الخطة التدريبية المعتمدة وتصويب الأخطاء، وتقوية نقاط الضعف، كما يجب على قادة الوحدات والتشكيلات تنفيذ توجيهات هيئة العمليات والتدريب فيما يختص بالخطة التدريبية وتقييم نتائجها وتقديم مقترحاتهم عن سير التدريب للاستفادة من التقدم وتعميم الناجح من البرامج التدريبية.

هذه المقومات باختصار، معروفة لدى الفكر العسكري ولا تحتاج للمزيد من الشرح، وما يهمنا هو أن مناورات «درع الخليج المشترك -1» لاح بأُفقها هذه المقومات التي تقودها للنجاح، وبالتالي ستقودها إلى تحقيق الأهداف السياسية والعسكرية والاقتصادية حتماً بلا شك.